فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه: هاهنا همزتان مكسورتان من كلمتين، قرأ قالون والبزي بتسهيل الأولى مع المد والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسيهل الثانية وإبدالها أيضًا حرف مد. وقرأ أبو عمرو بإسقاط أحدهما مع المد والقصر، والباقون بتحقيق الهمزتين ولا ألف بينهما.
{قالت يا ويلتى} هذه كلمة تقال عند أمر عظيم، والألف مبدلة من ياء الإضافة: {أألد وأنا عجوز} وكانت ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق، وقول مجاهد: تسع وتسعين سنة، {وهذا بعلي}، أي: زوجي سُمِّيَ بذلك لأنه قيّم أمرها، وقولها: {شيخًا} نصب على الحال. قال الواحدي: وهذا من لطيف النحو وغامضه فإنّ كلمة هذا للإشارة فكان قولها: {وهذا بعلي شيخًا} قائم مقام أن يقال: أشير إلى بعلي حال كونه شيخًا، والمقصود تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشيخوخة، وكان ابن مائة وعشرين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد: مائة سنة وكان بين البشارة والولادة سنة: {إن هذا لشيء عجيب}، أي: إنّ الولد من هرمين فهو استعجاب من حيث العادة دون القدرة ولذلك {قالوا}، أي: الملائكة لسارة: {أتعجبين من أمر الله} منكرين عليها ذلك، أي: لا تعجبين من ذلك فإنّ الله تعالى قادر على كل شيء، وإذا أراد شيئًا كان سريعًا فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوّة ومهبط المعجزات، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس بمستغرب: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت}، أي: بيت إبراهيم وأهل منصوب على المدح أو النداء لقصد التخصيص كقولهم: اغفر لنا أيتها العصابة وهذا على معنى الدعاء من الملائكة لهم بالخير والبركة، وفيه دليل على أنّ أزواج الرجل من أهل بيته: {إنه} تعالى: {حميدٌ}، أي: محمود على كل حال أو فاعل ما يستوجب به الحمد: {مجيد}، أي: كثير الخير والإحسان.
القصة الخامسة: التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة لوط عليه السلام المذكورة قوله تعالى: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع}، أي: الخوف وهو ما أوجس من الخيفة حين أنكر أضيافه واطمأن قلبه بعرفانهم: {وجاءته البشرى} بدل الروع بالولد أخذ: {يجادلنا}، أي: يجادل رسلنا: {في} شأن: {قوم لوط} وجواب لما أخذ يجادلنا إلا أنه حذف اللفظ لدلالة الكلام عليه. وقيل: تقديره لما ذهب عن إبراهيم الروع جادلنا. فإن قيل: كيف جادل إبراهيم الملائكة مع علمه بأنهم لا يمكنهم مخالفة أمر الله وهذا منكر؟
أجيب: بأنّ المراد من هذه المجادلة تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون ويرجعون عما هم فيه من الكفر والمعاصي، لأنّ الملائكة قالوا: {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} (العنكبوت). أو أنّ مجادلته إنما كانت في قوم لوط بسبب مقام لوط فيهم، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلًا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا قال: أو أربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون. قالوا: لا. قال: فعشرون؟ قالوا: لا حتى بلغ خمسة قالوا: لا. قال: أرأيتم لو كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فعند ذلك قال: إنّ فيها لوطًا. وقد ذكر الله تعالى هذا في سورة العنكبوت، فقال: {ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إنّ أهلها كانوا ظالمين قال إنّ فيها لوطًا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} (العنكبوت،). قال ابن جريج: وكان في قرى لوط أربعة آلاف ألف، ولو كانت هذه المجادلة مذمومة لما مدحه بقوله تعالى: {إنّ إبراهيم لحليم}، أي: لا يتعجل مكافأة غيره بل يتأنى فيها فيؤخر أو يعفو. ومن هذا حاله يحب من غيره هذه الطريقة، وهذا مدح عظيم من الله تعالى لإبراهيم، ثم ضم إلى ذلك ما يتعلق بالحلم وهو قوله تعالى: {أوّاه}، أي: كثير التأوّه من الذنوب والتأسف على الناس: {منيب}، أي: رجاع فلما أطال مجادلتهم قالوا له: {يا إبراهيم أعرض عن هذا}، أي: الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك فلا فائدة فيه: {إنه قد جاء أمر ربك}، أي: قضاؤه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم: {وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}، أي: لا سبيل إلى دفعه وردّه.
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَاؤُءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وتُخْزُونِ في ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا في بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ ويَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِىَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}
{ولما جاءت رسلنا لوطًا}، أي: هؤلاء الملائكة الذين بشروا إبراهيم بالولد. قال ابن عباس: انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وهو ابن أخي إبراهيم عليهما الصلاة والسلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله تعالى: {سيء بهم}، أي: حزن بسببهم: {وضاق بهم ذرعًا}، أي: صدرًا، يقال: ضاق ذرع فلان بكذا إذا وقع في مكروه لا يطيق الخروج منه. وذلك أنّ لوطًا نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم. وقيل: ساءه ذلك لأنه؛ عرف بالآخرة أنهم ملائكة الله تعالى وأنهم جاؤوا لإهلاك قومه، فَرَقَّ قلبه على قومه: {وقال هذا يوم عصيب}، أي: شديد كأنه قد عصب به الشرّ والبلاء، أي: شد به مأخوذ من العصابة التي تشد بها الرأس، قال قتادة: خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فأتوا لوطًا نصف النهار وهو في أرض له يعمل فيها، وروي أنه كان يحتطب وقد قال الله تعالى لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فاستضافوه وانطلق بهم، فلما مضى ساعة قال لهم ما بلغكم من أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم قال: أشهد بالله أنها لشرّ قرية في الأرض عملًا يقول ذلك أربع مرّات. وروي أنّ الملائكة جاؤوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره ولم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها وقالت: إنّ في بيت لوط رجالًا ما رأيت مثل وجوههم قط.
{وجاءه قومه} لما علموا بهم: {يهرعون}، أي: يسرعون: {إليه} قاله ابن عباس وقال الحسن: الإهراع المشي بين مشيين: {ومن قبل}، أي: قبل مجيئهم إلى لوط وقيل من قبل مجيء الرسل إليهم: {كانوا يعملون السيئات}، أي: الفعلات الخبيثة والفاحشة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم. لوطٌ: {قال} لقومه حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان من بني آدم: {يا قوم هؤلاء بناتي} قال مجاهد وسعيد بن جبير: أراد ببناته نساء قومه، وأضافهنّ إلى نفسه؛ لأنّ كل نبي هو أبو أمّته كالوالد لهم، أي: فتزوجوا منهنّ. وقيل: أراد بنات نفسه عرضهنّ عليهم بشرط الإسلام. وقيل: كان في ذلك الوقت وفي تلك الشريعة يباح تزويج المرأة المسلمة بالكافر كما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وهما كافران، وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوّجهما ابنتيه: {هن أطهر لكم}، أي: أنظف فعلًا. فإن قيل: أفعل التفضيل يقتضي كون العمل الذي يطلبونه طاهرًا ومعلوم أنه فاسد؛ لأنه لا طهارة في إتيان الرجال؟
أجيب: بأنّ هذا جارٍ مجرى قوله تعالى: {أذلك خير نزلًا أم شجرة الزقوم} (الصافات). ومعلوم أنّ شجرة الزقوم لا خير فيها وكقوله صلى الله عليه وسلم: «لما قالوا يوم أحد: اعل هبل قال: الله أعلى وأجل». ولا مماثلة بين الله تعالى والصنم وإنما هو كلام خرج مخرج المقابلة ولهذا نظائر كثيرة: {فاتقوا الله} وراقبوه واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي: {ولا تخزون}، أي: تفضحوني: {في ضيفي}، أي: أضيافي: {أليس منكم رجل رشيد} يهتدي إلى الحق فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
{قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق}، أي: حاجة: {وإنك لتعلم ما نريد}، أي: من إتيان الذكور وما لنا فيه الشهوة فعند ذلك.
{قال}، أي: لوط عليه السلام: {لو أنّ لي بكم قوّة}، أي: طاقة: {أو آوي إلى ركن شديد}، أي: عشيرة تنصرني شبهت بركن الجبل في شدّته، وعنه صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد»، والركن الشديد نصر الله ومعونته فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم استغرب من لوط عليه السلام قوله: {أو آوي إلى ركن شديد} وعدّه نادرة إذ لا يمكن أشدّ من الركن الذي كان يأوي إليه، وجواب لو محذوف تقديره: لبطشت بكم أو لدفعتكم، روي أنه أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوّروا الجدار فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب.
{قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} بسوء فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه، وله جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا، فضرب بجناحه وجوههم، فطمس أعينهم كما قال تعالى: {فطمسنا أعينهم} (القمر). فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم، فخرجوا وهم يقولون: النجاء النجاء، فإنّ في بيت لوط قومًا سحرة.
تنبيه: لن يصلوا إليك جملة موضحة للتي قبلها؛ لأنهم إذا كانوا رسل الله لن يصلوا إليه، ولن يقدروا على ضرره، ثم قالوا له: {فأسر بأهلك بقطع}، أي: طائفة: {من الليل} وقرأ نافع وابن كثير بعد الفاء بهمزة وصل من السرى والباقون بهمزة قطع من الإسراء: {ولا يلتفت منكم أحد}، أي: لا ينظر إلى ورائه لئلا يرى عظيم ما نزل بهم. وقوله: {إلا امرأتك} قرأه ابن كثير وأبو عمرو برفع التاء على أنه بدل من أحد، والباقون بالنصب على أنه استثناء من الأهل، أي: فلا تسر بها: {إنه مصيبها ما أصابهم} فلم يخرج بها، وقيل: خرجت والتفتت فقالت: واقوماه فجاءها حجر فقتلها. روي أنه قال لهم: متى موعد هلاكهم فقالوا له: {إنّ موعدهم الصبح} قال: أريد أسرع من ذلك فقالوا: {أليس الصبح بقريب}، أي: فأسرع الخروج بمن أمرت بهم.
{فلما جاء أمرنا}، أي: عذابنا بهلاكهم: {جعلنا عاليها}، أي: قراهم: {سافلها} روي أنّ جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات المذكورة في سورة براءة، وكانت خمس مدائن، وفيها أربعمائة ألف، وقيل: أربعة آلاف، ألف فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونهيق الحمير ونباح الكلاب، لم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه نائم، ثم أسقطها مقلوبة إلى الأرض: {وأمطرنا عليها}، أي: المدن بعد قلبها، وقيل: على شُذّاذها وهو بضمّ الشين المعجمة وبذالين معجمتين أولاهما مشدّدة وهم الذين ليسوا من أهلها يكونون في القوم وليسوا منهم: {حجارة من سجيل}، أي: من طين طبخ بالنار كما قال تعالى في موضع آخر: {من طين} وقيل مثل السجل وهو الدلو العظيمة: {منضود}، أي: متتابع يتبع بعضها بعضًا.
{مسوّمة}، أي: معلمة عليها اسم من يرمى بها. وقال أبو صالح: رأيت منها عند أم هانئ، وهي حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. وقال الحسن: عليها أمثال الخواتيم. وقال ابن جريج: كان عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض، وقوله تعالى: {عند ربك} ظرف لها: {وما هي}، أي: تلك الحجارة: {من الظالمين}، أي: مشركي مكة: {ببعيد}، أي: بشيء بعيدًا وبمكان بعيد؛ لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد إلا أنها إذا وقعت منها فهي أسرع شيء لحوقًا بالمرمي، فكأنها بمكان قريب منه، وفيه وعيد لهم، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سأل جبريل؟ فقال: يعني ظالمي مكة ما من ظالم منهم إلا وهو يعرض عليه حجر فيسقط عليه من ساعة إلى ساعة» وقيل الضمير للقرى، أي: هي قريبة من ظالمي مكة يمرّون عليها في مسيرهم. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}
لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ، جاءوا إلى لوط.
فلما رآهم لوط، وكانوا في صورة غلمان حسان مرد، {سِئ بِهِمْ} أي: ساءه مجيئهم، يقال: ساءه يسوءه، وأصل سيء بهم.
سويء بهم، نقلت حركة الواو إلى السين فقلبت الواو ياء، ولما خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء.
وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبو عمرو بإشمام السين الضم: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} قال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة، وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه: أي يبسطها، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته، ضاق ذرعه عن ذلك، فجعل ضيق الذرع كناية عن قلة الوسع والطاقة وشدّة الأمر.
وقيل: هو من ذرعه القيء: إذا غلبه وضاق عن حبسه.
والمعنى: أنه ضاق صدره لما رأى الملائكة في تلك الصورة خوفًا عليهم من قومه، لما يعلم من فسقهم وارتكابهم لفاحشة اللواط: {وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي: شديد.
قال الشاعر:
وإنك إن لم ترض بكر بن وائل ** يكن لك يوم بالعراق عصيب

يقال عصيب وعصيصب وعصوصب على التكثير، أي: يوم مكروه يجتمع فيه الشر، ومنه قيل: عصبة وعصابة: أي مجتمعو الكلمة، ورجل معصوب: أي مجتمع الخلق: {وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي: جاءوا لوطًا.
الجملة في محل نصب على الحال.
ومعنى: {يهرعون إليه}: يسرعون إليه.
قال الكسائي، والفراء، وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون الإهراع إلا إسراعًا مع رعدة، يقال: أهرع الرجل إهراعًا: أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى، قال مهلهل:
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى ** نهودهم على رغم الأنوف

وقيل: يهرعون: يهرولون.
وقيل: هو مشي بين الهرولة والعدو، والمعنى: أن قوم لوط لما بلغهم مجيء الملائكة في تلك الصورة أسرعوا إليه، كأنما يدفعون دفعًا لطلب الفاحشة من أضيافه: {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} أي: ومن قبل مجيء الرسل في هذا الوقت، كانوا يعملون السيئات.
وقيل: ومن قبل لوط كانوا يعملون السيئات، أي: كانت عادتهم إتيان الرجال، فلما جاءوا إلى لوط، وقصدوا أضيافه لذلك العمل، قام إليهم لوط مدافعًا: {وَقَالَ ياقَوْمٌ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أي: تزوّجوهنّ، ودعوا ما تطلبونه من الفاحشة بأضيافي، وقد كان له ثلاث بنات.
وقيل: اثنتان، وكانوا يطلبون منه أن يزوجهم بهنّ، فيمتنع لخبثهم، وكان لهم سيدان مطاعان، فأراد أن يزوجهما بنتيه.
وقيل: أراد بقوله: {هؤلاء بَنَاتِى} النساء جملة، لأن نبيّ القوم أب لهم، وقالت طائفة: إنما كان هذا القول منه على طريق المدافعة، ولم يرد الحقيقة.
ومعنى: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أي: أحلّ وأنزه.
والتطهر: التنزه عما لا يحلّ، وليس في صيغة أطهر دلالة على التفضيل، بل هي مثل: الله أكبر.
وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر بنصب أطهر، وقرأ الباقون بالرفع؛ ووجه النصب أن يكون اسم الإشارة مبتدأ، وخبره: {بناتي}، و: {هنّ} ضمير فصل، و: {أطهر} حال. وقد منع الخليل، وسيبويه، والأخفش مثل هذا، لأن ضمير الفصل الذي يسمى عمادًا إنما يكون بين كلامين بحيث لا يتمّ الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ في ضَيْفِى} أي: اتقوا الله بترك ما تريدون من الفاحشة بهم، ولا تذلوني وتجلبوا عليّ العار في ضيفي، والضيف يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، لأنه في الأصل مصدر، ومنه قول الشاعر:
لا تعدمي الدهر شفار الجازر ** للضيف والضيف أحق زائر

ويجوز فيه التثنية والجمع، والأوّل: أكثر.
يقال: خزي الرجل خزاية، أي استحيا أو ذلّ أو هان، وخزي خزيًا: إذا افتضح، ومعنى: {في ضيفي}: في حق ضيفي، فخزي الضيف: خزي للمضيف، ثم وبخهم فقال: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح، ويمنعكم منه، فأجابوا عليه معرضين عما نصحهم به، وأرشدهم إليه، بقوله: {مَا لَنَا في بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ} أي: ما لنا فيهم من شهوة ولا حاجة، لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق.